الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ولا يقال: إنه عليه السلام أخلف وعده وإن كان للتيمن، فإن قلنا: إن الوعد الكوعيد إنشاء لا يحتمل الصدق والكذب أو إنه مقيد بقيد يعلم بقرينة المقام كان أردت أو إن لم يمنع مانع شرعي أو غيره فكذلك لا إشكال، وإن قلنا: إنه خبر وإنه ليس على نية التقييد جاء الاشكال ظاهرًا فإن الخلف حينئذ كذب وهو غير لائق بمقام النبوة لمنافاته العصمة.وأجيب بأن ما صدر منه عليه السلام في المرتين الأخيرتين كانا نسيانًا كما في المرة الأولى ولا يضر مثل هذا الخلف بمقام النبوة لأن النسيان عذر. وتعقب بأنه لا نسلم النسيان في المرتين الأخيرتين ففي البخاري وشرحه لابن حجر وكانت الأولى نسيانًا والثانية شرطًا والثالثة عمدا، وفي رواية والثانية عمدًا والثالثة فراقًا، وقال بعضهم: لك أن تقول: لم يقع منه عليه السلام ما يخل بمقامه لأن الخلف في المرة الأولى معفو عنه وحيث وقع لم تكن الأخيرتان خلفا وفيه تأمل، وقال القشيري: إن موسى عليه السلام وعد من نفسه بشيئين بالصبر وقرنه بالمشيئة فصبر فيما كان من الخضر عليه السلام من الفعل وبان لا يعصيه فاطلق ولم يقرنه بالمشيئة فعصاه حيث قال: فلا تسألني فكان يسأله فما قرنه بالاستثناء لم يخلف فيه وما أطلقه وقع فيه الخلف انتهى، وهو مبني على أن العطف على {سَتَجِدُنِى} وقد علمت أنه خلاف الأولى، وأيضًا المراد بالصبر الثبات والإقرار على الفعل وعدم الاعتراض كما ينبىء عنه المحاورة الآتية وهو لم يتحقق منه عليه السلام، وأيضًا يبقى الكلام في الخلف كما لا يخفى، وأنت تعلم أنه يبعد من حال موسى عليه السلام القطع بالصبر وعدم عصيان الأمر بعد أن أشار له الخضر عليه السلام أنه سيصدر منه أمور منكرة مخالفة لقضية شريعته فلا يبعد منه اعتبار التعليق في الجملتين، ولم يأت به بعدهما بل وسطه بين مفعولي الوجدان من الجملة الأولى لمزيد الاعتناء بشأنه، وبه يرتفع الإشكال من غير احتياج إلى القيل والقال، وفيه دليل على أن أفعال العبد بمشيئته تعالى لأنه إذا صدر بعض الأفعال الاختيارية بمشيئته سبحانه لزم صدور الكل بها إذ لا قائل بالفرق والمعتزلة اختاروا أن ذكر المشيئة للتيمن وهو لا يدل على ما ذكر، وقال بعض المحققين: إن الاستدلال جار أيضًا على احتمال التيمن لأنه لا وجه للتيمن بما لا حقيقة له، وقد أشار إلى ذلك الإمام أيضًا فافهم، وقد استدل بالآية على أن الأمر للوجوب وفيه نظر، ثم إن الظاهر أنه لم يرد بالأمر مقابل النهي بل أريد مطلق الطلب وحاصل الآية نفي أن يعصيه في كل ما يطلبه.{قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70)}.{قَالَ} الخضر عليه السلام {فَإِنِ اتبعتنى} إذن له عليه السلام في الاتباع بعد اللتيا والتي، والفاء لتفريع الشرطية على ما مر من وعد موسى عليه السلام بالصبر والطاعة: {فَلاَ تَسْأَلْنى عَن شَىء} تشاهده من أفعالي فضلًا عن المناقشة والاعتراض {حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} أي حتى ابتدئك ببيانه، والغاية على ما قيل مضروبة لما يفهم من الكلام كأنه قيل أنكر بقلبك على ما أفعل حتى أبينه لك أو هي لتأبيد ترك السؤال فإنه لا ينبغي السؤال بعد البيان بالطريق الأولى، وعلى الوجهين فيها إيذان بأن كل ما يصدر عنه فله حكمة وغاية حميدة البتة، وقيل: حتى للتعليل وليس بشيء.وقرأ نافع، وابن عامر {قلا تسئلني} بالنون المثقلة مع الهمز، وعن أبي جعفر {فَلا} بفتح السين واللام والنون المثقلة من غير همز، وكل القراء كما قال أبو بكر بياء في آخره، وعن ابن عباس رضي الله عنهما في حذف الياء خلاف غريب. اهـ.
.قال القاسمي: {فَوَجَدَا} أي: فأتيا الموضع المنسيّ فيه الحوت، فوجدا: {عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا} التنكير للتفخيم، والإضافة فيه للتشريف. والجمهور على أنه الخضر. وسنتكلم على جملة من نبئه، بعونه تعالى، بعد تمام القصة: {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} أي: آتيناه رحمة لدنيّة، اختصصناه بها: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} أي: علمًا جليلًا آثرناه. وهو علم لدنّي يكون بتأييد ربانيّ. وسنذكر إن شاء الله تعالى العلم اللدنيّ في آخر هذا النبأ.{قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ} أي: أصحبكَ: {عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ} أي: من لدن ربك: {رُشْدًا} أي: علمًا ذا رشد. أي: هدى وإصابة خير.قال القاضي: وقد راعى في ذلك غاية التواضع والأدب. فاستجهل نفسه، واستأذن أن يكون تابعًا له، وسأل منه أن يرشده وينعم عليه، بتعليم بعض ما أنعم الله عليه. أي: وهكذا ينبغي أن يكون سؤال المتعلم من العالم.{قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} أي: بوجه من الوجوه. ثم علل معتذرًا بقوله: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} أي: من أمور ستراها. إن صحبتني، ظواهرها مناكير وبواطنها لم يحط بها خبرك.{قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} أي: لا أخالفك في شيء.قال الزمخشري: رجا موسى عليه السلام، لحرصه على العلم وازدياده، أن يستطيع معه صبرًا، بعد إفصاح الخضر عن حقيقة الأمر. فوعده بالصبر معلقًا بمشيئة الله. علمًا منه بشدة الأمر وصعوبته، وإن الحمية التي تأخذ المصلح عند مشاهدة الفساد شيء لا يطاق. هذا مع علمه أن النبيّ المعصوم، الذي أمره الله بالمسافرة إليه واتباعه واقتباسه العلم منه، بريء من أن يباشر ما فيه غميزة في الدين. وأنه لابد، لما يستسمج ظاهره، من باطن حسن جميل. فكيف إذا لم يعلم؟ انتهى.{قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} أي: لا تفاتحني بالسؤال عن شيء أنكرته منِّي، ولم تعلم وجه صحته، حتى أبتدئك ببيانه. وهذا من آداب المتعلم مع العالم والمتبوع مع التابع. اهـ..قال ابن عاشور: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)}.والمراد بالعبد: الخضر، ووصف بأنه من عباد الله تشريفًا له، كما تقدم عند قوله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده} [الإسراء: 1].وعدل عن الإضافة إلى التنكير والصفة لأنه لم يسبق ما يقتضي تعريفه، وللإشارة إلى أن هذا الحال الغريب العظيم الذي ذكر من قصته ما هو إلا من أحوال عباد كثيرين لله تعالى.وما منهم إلا له مقام معلوم.وإيتاء الرحمة يجوز أن يكون معناه: أنه جُعل مرحومًا، وذلك بأن رفق الله به في أحواله.ويجوز أن يكون جعلناه سبب رحمة بأن صرفه تصرفًا يجلب الرحمة العامة.والعلم من لدن الله: هو الإعلام بطريق الوحي.و عند و لدن كلاهما حقيقته اسمُ مكان قريب.ويستعملان مجازًا في اختصاص المضاف إليه بموصوفهما.و{من} ابتدائية، أي آتيناه رحمةً صدرت من مكان القُرب، أي الشرف وهو قرب تشريف بالانتساب إلى الله، وعلمًا صدر منه أيضًا.وذلك أن ما أوتيه من الولاية أو النبوءة رحمة عزيزة، أو ما أوتيه من العلم عزيز، فكأنهما مما يدخر عند الله في مكان القرب التشريفي من الله فلا يُعطى إلا للمصطفيَن.والمخالفة بين {من عندنا} وبين {من لدنا} للتفنن تفاديًا من إعادة الكلمة.وجملة {قال له موسى} ابتداء محاورة، فهو استئناف ابتدائي، ولذلك لم يقع التعبير ب {قال} مجردة عن العاطف. والاستفهام في قوله: {هل أتبعك} مستعمل في العَرْض بقرينة أنه استفهام عن عمل نَفس المستفهم.والاتباع: مجاز في المصاحبة كقوله تعالى: {إن يتبعون إلا الظن} [النّجم: 28].و{على} مستعملة في معنى الاشتراط لأنه استعلاء مجازي.جعل الاتباع كأنه مستعمل فوق التعليم لشدة المقارنة بينهما.فصيغة: أَفْعَلُ كذا على كذا، من صيغ الالتزام والتعاقد.ويؤخذ من الآية جواز التعاقد على تعليم القرآن والعلم، كما في حديث تزويج المرأة التي عرضت نفسها على النبي فلم يقبلها، فزوجها مَن رغب فيها على أن يعلمها ما معه من القرآن.وفيه أنه التزام يجب الوفاء به.وقد تفرع عن حكم لزوم الالتزام أن العرف فيه يقوم مقام الاشتراط فيجب على المنتصب للتعليم أن يعامل المتعلمين بما جرى عليه عرف أقاليمهم.وذكر عياض في باب صفة مجلس مالك للعلم من كتاب المدارك: أن رجلًا خراسانيًا جاء من خراسان إلى المدينة للسماع من مالك فوجد الناس يعرِضون عليه وهو يسمع ولا يسمعون قراءة منه عليهم، فسأله أن يَقرأ عليهم فأبى مالك، فاستعدى الخراساني قاضيَ المدينة.وقال: جئت من خراسان ونحن لا نرى العرض وأبى مالك أن يقرأ علينا.فحكم القاضي على مالك: أن يقرأ له، فقيل لمالك: أأصاب القاضي الحق؟ قال: نعم.وفيه أيضًا إشارة إلى أن حق المعلم على المتعلم اتباعه والاقتداء به.وانتصب {رشدًا} على المفعولية لـ: {تعلمن} أي ما به الرشد، أي الخير.وهذا العلم الذي سأل موسى تعلمه هو من العلم النافع الذي لا يتعلق بالتشريع للأمة الإسرائيلية، فإن موسى مستغن في علم التشريع عن الازدياد إلا من وحي الله إليه مباشرة، لأنه لذلك أرسله وما عدا ذلك لا تقتضي الرسالة علمه.وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الذين وجدهم يؤبّرون النخل «أنتم أعلم بأمور دنياكم».ورجع يوم بدر إلى قول المنذر بن الحارث في أن المنزل الذي نزله جيشُ المسلمين ببدر أولَ مرة ليس الأليقَ بالحرب.وإنما رام موسى أن يَعلم شيئًا من العِلم الذي خص الله به الخضر لأن الازدياد من العلوم النافعة هو من الخير.وقد قال الله تعالى تعليمًا لنبيه {وقل رب زدني علمًا} [طه: 114].وهذا العلم الذي أوتيه الخضر هو علم سياسة خاصة غيرِ عامة تتعلق بمعينين لِجلب مصلحة أو دفع مفسدة بحسب ما تهيئه الحوادث والأكوان لا بحسب ما يناسب المصلحة العامة.فلعل الله يسره لنفع معينين من عنده كما جعل محمدًا رحمة عامة لكافة الناس، ومن هنا فارق سياسةَ التشريع العامة.ونظيره معرفة النبي أحوال بعض المشركين والمنافقين، وتحققه أن أولئك المشركين لا يؤمنون وهو مع ذلك يدعوهم دومًا إلى الإيمان، وتحققه أن أولئك المنافقين غيرُ مؤمنين وهو يعاملهم معاملة المؤمنين، وكان حذيفة بن اليمان يعرفهم بأعيانهم بإخبار النبي إياه بهم.وقرأ الجمهور {رشدًا} بضم الراء وسكون الشين.وقرأه أبو عمرو، ويعقوب بفتح الراء وفتح الشين مثل اللفظين السابقين، وهما لغتان كما تقدم.وأكد جملة {إنك لن تستطيع معي صبرًا} بحرف إن وبحرف {لَن} تحقيقًا لمضمونها من توقع ضيق ذرع موسى عن قبول ما يبديه إليه، لأنه علم أنه تصدر منه أفعال ظاهرها المنكر وباطنها المعروف.ولما كان موسى عليه السلام من الأنبياء الذين أقامهم الله لإجرء الأحكام على الظاهر علم أنه سينكر ما يشاهده من تصرفاته لاختلاف المشربين لأن الأنبياء لا يقرون المنكر.وهذا تحذير منه لموسى وتنبيه على ما يستقبله منه حتى يُقدم على متابعته إن شاء على بصيرة وعلى غير اغترار، وليس المقصود منه الإخبار.فمناط التأكيدات في جملة {إنك لن تستطيع معي صبرًا} إنما هو تحقيق خطورة أعماله وغرابتها في المتعارف بحيث لا تتحمل، ولو كان خبرًا على أصله لم يقبل فيه المراجعة ولم يجبه موسى بقوله: {ستجدني إن شاء الله صابرًا}.وفي هذا أصل من أصول التعليم أن ينبِه المعلمُ المتعلمَ بعوارض موضوعات العلوم الملقنة لاسيما إذا كانت في معالجتها مشقة.وزادها تأكيدًا عموم الصبر المنفي لوقوعه نكرةً في سياق النفي، وأن المنفي استطاعته الصبر المفيد أنه لو تجشم أن يصبر لم يستطع ذلك، فأفاد هذا التركيبُ نفي حصول الصبر منه في المستقبل على آكد وجه.وزيادة {معي} إيماء إلى أنه يجد من أعماله ما لا يجد مثله مع غيره فانتفاء الصبر على أعماله أجدر.وجملة {وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرًا} في موضع الحال من اسم إن أو من ضمير {تستطيع}، فالواو واو الحال وليست واو العطف لأن شأن هذه الجملة أن لا تعطف على التي قبلها لأن بينهما كمال الاتصال إذ الثانية كالعلة للأولى.وإنما أوثر مجيئها في صورة الجملة الحالية، دون أن تفصل عن الجملة الأولى فتقع علة مع أن التعليل هو المراد، للتنبيه على أن مضمونها علة ملازمة لِمضمون التي قبلها إذ هي حال من المسند إليه في الجملة قبلها.و{كيف} للاستفام الإنكاري في معنى النفي، أي وأنت لا تصبر على ما لم تحط به خُبرًا.والخُبر بضم الخاء وسكون الباء: العِلم.وهو منصوب على أنه تمييز لنسبة الإحاطة في قوله: {ما لم تحط به}، أي إحاطة من حيث العلم.والإحاطةُ: مجاز في التمكن، تشبيهًا لقوة تمكن الاتصاف بتمكن الجسم المحيط بما أحاط به.وقوله: {ستجدني إن شاء الله صابرًا} أبلغ في ثبوت الصبر من نحو: سأصبر، لأنه يدل على حصول صبر ظاهر لرفيقه ومتبوعه.
|